لماذا نُصبت كلمة ( البر ) في الآية 177 من سورة البقرة؟ و رُفعتْ في الآية 189 ؟
يقول الله تعالى في الآية رقم 177 من سورة البقرة :
((لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ))
ليس البر :
ليس : فعل ماضي ناسخ مبني على الفتح.
البرُّ : خبر ( لَيْسَ ) مقدَّم منصوب و علامة نصبه الفتحة الظاهرة على آخره. و اسم ليس ( أَنْ تُوَلُّوا ).
و يقول تعالى في الآية رقم 189 من سورة البقرة :
((يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ))
ليس البر :
ليس : فعل ماضي ناسخ جامد مبني على الفتح. ( جامد أي ليس له مضارع )
البرُّ : اسم ليس مرفوع و علامة رفعه الضمة الظاهرة على آخره.
قال فضيلة الشيخ محمد متولي الشعراوي ــ رحمه الله ــ في ذلك :
والملاحظ أن كلمة « البر » في هذه الآية جاءت مرفوعة ، لأن موقعها من الإعراب هو « اسم ليس » وهي تختلف عن كلمة « البر » التي جاءت من قبل في قوله تعالى : { لَّيْسَ البر أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المشرق والمغرب } التي جاءت منصوبة؛ لأن موقعها من الإعراب هو « خبر مقدم لليس » .
إذن فمرة يكون الاسم معروفاً لك فتلحق به الوصف ، ومرة تجهل الاسم وتعرف الوصف فتلحق الاسم بالوصف . وهذا سر اختلاف الرفع والنصب في كلمة « البر » في كل من الآيتين .
و قرأ حمزة وحفص: ليس البر بنصب الراء، والباقون برفعها، فمن رفعها جعل ( الْبِر ) اسم ليس، وخبره قوله: أن تولوا، تقديره: ليس البر توليتكم وجوهكم. كقوله تعالى مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا ائْتُوا ( 25- الجاثية ) . والبر كل عمل خير يفضي بصاحبه إلى الجنة واختلفوا في المخاطبين بهذه الآية، فقال قوم: عنى بها اليهود والنصارى، وذلك أن اليهود كانت تصلي قبل المغرب إلى بيت المقدس والنصارى قبل المشرق، وزعم كل فريق منهم: أن البر في ذلك، فأخبر الله تعالى أن البر غير دينهم وعملهم ولكنه ما بينه في هذه الآية وعلى هذا القول قتادة ومقاتل بن حيان. وقال الآخرون: المراد بها المؤمنون وذلك أن الرجل كان في ابتداء الإسلام قبل نـزول الفرائض إذا أتى بالشهادتين وصلى الصلاة إلى أي جهة كانت ثم مات على ذلك وجبت له الجنة.
ولما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم ونـزلت الفرائض وحددت الحدود وصرفت القبلة إلى الكعبة أنـزل الله هذه الآية فقال: ( لَيْسَ الْبِرَّ ) أي كله أن تصلوا قبل المشرق والمغرب ولا تعملوا على غير ذلك ( وَلَكِنَّ الْبِرَّ ) ما ذكر في هذه الآية وعلى هذا القول ابن عباس ومجاهد وعطاء والضحاك. ( وَلَكِنَّ الْبِرَّ ) قرأ نافع وابن عامر ولكن خفيفة النون البر رفع وقرأ الباقون بتشديد النون ونصب البر.
﴿ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ﴾ [البقرة: 177] - قال ابن عثيمين في تفسيرها كلاما نفيسا قال ما مختصره:
البر في الأصل الخير الكثير؛ ومنه سمي البَرّ لسعته، واتساعه؛ ومنه البَرّ اسم من أسماء الله، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ ﴾ [الطور: 28]؛ ومعنى الآية: ليس الخير، أو كثرة الخير، والبركة أن يولي الإنسان وجهه قبل المشرق أي جهة المشرق؛ أي جهة المغرب.
وهذه الآية نزلت توطئة لتحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة؛ فبين الله عز وجل أنه ليس البر أن يتوجه الإنسان إلى هذا، أو هذا؛ ليس هذا هو الشأن؛ الشأن إنما هو في الإيمان بالله... إلخ؛ أما الاتجاه فإنه لا يكون خيراً إلا إذا كان بأمر الله؛ ولا يكون شراً إلا إذا كان مخالفاً لأمر الله؛ فأيّ جهة توجهتم إليها بأمر الله فهو البر؛ وجاءت الآية بذكر المشرق، والمغرب؛ لأن أظهر، وأبين الجهات هي جهة المشرق، والمغرب.
هذا والله أعلم .